فصل: التّعريف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


التزام

التّعريف

1-الالتزام في اللّغة يقال‏:‏ لزم الشّيء يلزم لزوماً أي‏:‏ ثبت ودام، ولزمه المال وجب عليه، ولزمه الطّلاق‏:‏ وجب حكمه، وألزمته المال والعمل فالتزمه، والالتزام‏:‏ الاعتناق‏.‏ والالتزام‏:‏ إلزام الشّخص نفسه ما لم يكن لازماً له، أي ما لم يكن واجباً عليه قبل، وهو بهذا المعنى شامل للبيع والإجارة والنّكاح وسائر العقود‏.‏

وهذا المعنى اللّغويّ جرت عليه استعمالات الفقهاء، حيث تدلّ تعبيراتهم على أنّ الالتزام عامّ في التّصرّفات الاختياريّة، وهي تشمل جميع العقود، سواء في ذلك المعاوضات والتّبرّعات‏.‏ وهو ما اعتبره الحطّاب استعمالاً لغويّاً، فقد عرّفه بأنّه‏:‏ إلزام الشّخص نفسه شيئاً من المعروف مطلقاً، أو معلّقاً على شيءٍ، فهو بمعنى العطيّة، فدخل في ذلك الصّدقة والهبة والحبس ‏(‏الوقف‏)‏ والعاريّة والعمرى والعريّة والمنحة والإرفاق والإخدام والإسكان والنّذر‏.‏

قال الحطّاب في كتابه تحرير الكلام في مسائل الالتزام‏:‏ وقد يطلق في العرف على ما هو أخصّ من ذلك، وهو التزام المعروف بلفظ الالتزام‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العقد والعهد‏:‏

2 - من معاني العقد لغةً‏:‏ العهد، ويقال‏:‏ عهدت إلى فلانٍ في كذا وكذا، وتأويله‏:‏ ألزمته ذلك، فإذا قلت عاقدته أو عقدت عليه فتأويله‏:‏ أنّك ألزمته ذلك باستيثاقٍ، وتعاقد القوم‏:‏ تعاهدوا‏.‏ وفي المجلّة العدليّة‏:‏ العقد‏:‏ التزام المتعاقدين وتعهّدهما أمراً، وهو عبارة عن ارتباط الإيجاب بالقبول‏.‏ وبذلك يكون العقد التزاماً‏.‏

3 - أمّا العهد فهو في اللّغة‏:‏ الوصيّة، يقال عهد إليه يعهد‏:‏ إذا أوصاه، والعهد‏:‏ الأمان، والموثق، والذّمّة‏.‏

والعهد‏:‏ كلّ ما عوهد اللّه عليه، وكلّ ما بين العباد من المواثيق فهو عهد، والعهد‏:‏ اليمين يحلف بها الرّجل‏.‏ وبذلك يعتبر العهد نوعاً من أنواع الالتزام أيضاً‏.‏

ب - التّصرّف‏:‏

4 - يقال صرف الشّيء‏:‏ إذا أعمله في غير وجهٍ كأنّه يصرفه عن وجهٍ إلى وجهٍ، ومنه التّصرّف في الأمور‏.‏

وبهذا المعنى يكون التّصرّف أعمّ من الالتزام، إذ من التّصرّف ما ليس فيه التزام‏.‏

ج - الإلزام‏:‏

5 - الإلزام‏:‏ الإثبات والإدامة، وألزمته المال والعمل وغيره‏.‏

فالإلزام سبب الالتزام، سواء أكان ذلك بإلزام الشّخص نفسه شيئاً، أم بإلزام الشّارع له‏.‏ يقول الرّاغب الأصفهانيّ‏:‏ الإلزام ضربان‏:‏ إلزام بالتّسخير من اللّه، أو من الإنسان‏.‏ وإلزام بالحكم والأمر، والإلزام لا يتوقّف على القبول‏.‏

د - اللّزوم‏:‏

6 - اللّزوم‏:‏ الثّبوت والدّوام، ولزمه المال‏:‏ وجب عليه، ولزمه الطّلاق‏:‏ وجب حكمه‏.‏ فاللّزوم يصدق على ما يترتّب على الالتزام متى توفّرت شروطه، وعلى ما يقرّره الشّرع إذا توافرت شروط معيّنة‏.‏ أمّا الالتزام فهو أمر يقرّره الإنسان باختياره ابتداءً‏.‏

هـ- الحقّ‏:‏

7- الحقّ ضدّ الباطل، وحقّ الأمر أي ثبت، قال الأزهريّ‏:‏ معناه وجب يجب وجوباً، وهو مصدر حقّ الشّيء إذا وجب وثبت‏.‏

والحقّ اصطلاحاً‏:‏ هو موضوع الالتزام، أي ما يلتزم به الإنسان تجاه اللّه، أو تجاه غيره من النّاس‏.‏

و - الوعد‏:‏

8 - الوعد يدلّ على ترجيةٍ بقولٍ، والوعد يستعمل في الخير حقيقةً وفي الشّرّ مجازاً‏.‏ والوعد‏:‏ العهد‏.‏

والعدة ليس فيها إلزام الشّخص نفسه شيئاً الآن، وإنّما هي كما قال ابن عرفة‏:‏ إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل‏.‏

والفرق بين ما يدلّ على الالتزام، وما يدلّ على العدة‏:‏ هو ما يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال‏.‏ والظّاهر من صيغة المضارع‏:‏ الوعد، مثل‏:‏ أنا أفعل، إلاّ أن تدلّ قرينة على الالتزام كما يفهم من كلام ابن رشدٍ‏.‏ وذلك مثل ما لو سألك مدين أن تؤخّره إلى أجل كذا، فقلت‏:‏ أنا أؤخّرك، فهو عدة، ولو قلت‏:‏ قد أخّرتك، فهو التزام‏.‏

أسباب الالتزام

9 - من تعريف الالتزام اللّغويّ والشّرعيّ، ومن استعمالات الفقهاء وعباراتهم، يتبيّن أنّ سبب الالتزام هو تصرّفات الإنسان الاختياريّة الّتي يوجب بها حقّاً على نفسه، وسواء أكان هذا الحقّ تجاه شخصٍ، كالالتزامات الّتي يبرمها، ومنها العقود والعهود الّتي يتعهّد بها، والأيمان الّتي يعقدها، والشّروط الّتي يشترطها‏.‏ أم كان لحقّ اللّه، كنذرٍ صلاةٍ أو صومٍ أو اعتكافٍ أو صدقةٍ مثلاً‏.‏ وهناك أسباب أخرى سيأتي ذكرها فيما بعد‏.‏ وبيان ذلك فيما يأتي‏.‏

التّصرّفات الاختياريّة

10 - التّصرّفات الّتي يباشرها الإنسان باختياره ويوجب بها حقّاً على نفسه تتناول العقود بالمعنى العامّ الّذي أطلقه الفقهاء، وهي الّتي تنعقد بإرادتين متقابلتين ‏(‏أي بالإيجاب والقبول‏)‏ أو الّتي تنعقد بإرادةٍ واحدةٍ ‏(‏أي بالإيجاب فقط‏)‏ وهذه قد تسمّى عقوداً على سبيل التّوسّع‏.‏

والتّصرّف يتمّ بإيجابٍ وقبولٍ إذا كان من شأنه أن يرتّب التزاماً في جانب كلٍّ من الطّرفين، كالبيع والإجارة والمساقاة والمزارعة‏.‏ أمّا التّصرّف الّذي يرتّب التزاماً في جانب أحد الطّرفين دون الآخر فيتمّ بإيجاب الطّرف الملتزم وحده، كالوقف والوصيّة لغير معيّنٍ والجعالة والإبراء من الدّين والضّمان والهبة والعاريّة‏.‏ وهذا في الجملة مع مراعاة اختلاف الفقهاء في اشتراط القبول في بعضها‏.‏ ويدخل فيما يتمّ بإرادةٍ منفردةٍ‏:‏ الأيمان والنّذور، وما شاكل ذلك‏.‏ فهذه التّصرّفات كلّها الّتي تتمّ بإرادتين، أو بإرادةٍ واحدةٍ متى استوفت أركانها وشرائطها على النّحو المشروع، فإنّه يترتّب عليها الالتزام بأحكامها‏.‏

11 - ونصوص الفقهاء صريحة في أنّ الالتزام يشمل كلّ ما ذكر، ومن هذه النّصوص‏:‏

أ - في كتاب البيوع من المجلّة العدليّة‏.‏ العقد‏:‏ التزام المتعاقدين وتعهّدهما أمراً، وهو عبارة عن ارتباط الإيجاب بالقبول‏.‏

ب - جاء في المنثور في القواعد للزّركشيّ‏:‏ العقد الشّرعيّ ينقسم باعتبار الاستقلال به وعدمه إلى ضربين‏:‏

الأوّل‏:‏ عقد ينفرد به العاقد، مثل عقد النّذر واليمين والوقف، إذا لم يشترط القبول فيه، وعدّ بعضهم منه الطّلاق والعتاق إذا كانا بغير عوضٍ، قال الزّركشيّ‏:‏ وإنّما هو رفع للعقد‏.‏ والثّاني‏:‏ عقد لا بدّ فيه من متعاقدين، كالبيع والإجارة والسّلم والصّلح والحوالة والمساقاة والهبة‏.‏ والشّركة والوكالة والمضاربة والوصيّة والعاريّة الوديعة والقرض والجعالة والمكاتبة والنّكاح والرّهن والضّمان والكفالة‏.‏

ج - وفي المنثور أيضاً‏:‏ ما أوجبه اللّه على المكلّفين ينقسم إلى ما يكون سببه جنايةً ويسمّى عقوبةً، وإلى ما يكون سببه التزاماً ويسمّى ثمناً أو أجرةً أو مهراً أو غيره د - في القواعد للعزّ بن عبد السّلام‏:‏ المساقاة والمزارعة التّابعة لها هي التزام أعمال الفلاحة بجزءٍ شائعٍ من الغلّة المعمول على تحصيلها‏.‏ وفيه كذلك‏:‏ التزام الحقوق من غير قبولٍ أنواع‏:‏ أحدها‏:‏ بنذرٍ في الذّمم والأعيان‏.‏

الثّاني‏:‏ التزام الدّيون بالضّمان‏.‏

الثّالث‏:‏ ضمان الدّرك‏.‏

الرّابع‏:‏ ضمان الوجه‏.‏

الخامس‏:‏ ضمان ما يجب إحضاره من الأعيان المضمونات‏.‏

هـ-من الأمثلة الّتي ذكرها الحطّاب في الالتزامات‏:‏

- 1- إذا قال له‏:‏ إن بعتني سلعتك بكذا فقد التزمت لك كذا وكذا، فالشّيء الملتزم به داخل في جملة الثّمن، فيشترط فيه ما يشترط في الثّمن‏.‏

-2- إذا قال له‏:‏ إن أسكنتني دارك سنةً، فهذا من باب الإجارة، فيشترط فيه شروط الإجارة، بأن تكون المدّة معلومةً والمنفعة معلومةً، وأن يكون الشّيء الملتزم به ممّا يصحّ أن يكون أجرةً‏.‏ وأمثال هذه النّصوص كثيرة في كتب الفقه‏.‏

ومنها يمكن القول بأنّ الأسباب الحقيقيّة للالتزامات‏:‏ هي تصرّفات الإنسان الاختياريّة‏.‏ إلاّ أنّ المشتغلين بالفقه في العصر الحديث زادوا على ذلك ثلاثة مصادر أخرى ليست في الحقيقة التزاماً، بل هي إلزام أو لزوم، ولكن يترتّب عليها مثل ما يترتّب بالالتزام باعتبار التّسبّب أو المباشرة‏.‏ وبيانها كما يلي‏:‏

- 1- الفعل الضّارّ أو الفعل غير المشروع‏:‏

12 - الفعل الضّارّ الّذي يصيب الجسم أو المال يستوجب العقوبة أو الضّمان‏.‏

والأضرار متعدّدة فمنها إتلاف مال الغير، ومنها الجناية على النّفس أو الأطراف، ومنها التّعدّي بالغصب، أو بالسّرقة، أو بالتّجاوز في الاستعمال المأذون فيه، كتجاوز المستأجر، والمستعير، والحجّام، والطّبيب، والمنتفع بالطّريق، ومنها التّفريط في الأمانات كالودائع والرّهون‏.‏ ففي كلّ ذلك يصير الفاعل ملزماً بضمان فعله، وعليه العوض في المثليّ بمثله، وفي القيميّ بقيمته، وهذا في الجملة، إذ من الإتلافات ما لا ضمان فيه، كمن صال عليه إنسان أو بهيمة ولم يندفع إلاّ بالقتل فقتله، كما أنّ من الأعمال المباحة ما فيه الضّمان، كالمضطرّ الّذي يأكل مال غيره، ففيه الضّمان عند غير المالكيّة‏.‏

والضّابط في ذلك ما قال الزّركشيّ‏:‏ أنّ التّعدّي مضمون أبداً إلاّ ما قام دليله، وفعل المباح ساقط أبداً إلاّ ما قام دليله‏.‏ والأصل في منع الضّرر قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ضرر ولا ضرار» وفي كلّ ما سبق تفصيلات كثيرة ينظر في مصطلحاتها وأبوابها‏.‏

- 2- الفعل النّافع أو الإثراء بلا سببٍ‏:‏

13 - قد يقوم الإنسان بفعلٍ نافعٍ لغيره، فيصير دائنا لذلك الغير بما قام به أو بما أدّى عنه‏.‏ وهذا ما يسمّيه المشتغلون بالفقه في العصر الحديث ‏(‏الإثراء بلا سببٍ‏)‏ وهم يعنون بذلك‏:‏ أنّ من أدّى عن غيره ديناً أو أحدث له منفعةً فقد افتقر المؤدّي وأثرى المؤدّى عنه بلا سببٍ، وبذلك يصبح المثري ملزماً بأداء أو ضمان ما أدّاه عنه غيره أو قام به‏.‏

وليست هناك قاعدة يندرج تحتها ذلك، وإنّما هي مسائل متفرّقة في أبواب الفقه، كإنفاق المرتهن على الرّهن، والملتقط على اللّقيط أو اللّقطة، والنّفقة على الرّقيق والزّوجات والأقارب والبهائم إذا امتنع من يجب عليه الإنفاق، وإنفاق أحد الشّريكين على المال المشترك مع غيبة الآخر أو امتناعه‏.‏ ومن ذلك‏:‏ بناء صاحب العلوّ السّفل بدون إذن صاحبه‏.‏ أو إذن الحاكم لاضطراره لذلك، وبناء الحائط المشترك، ودفع الزّكاة لغير المستحقّ‏.‏‏.‏ وهكذا‏.‏

ففي مثل هذه المسائل يكون المنتفع ملزماً بما أدّى عنه، ويكون لمن أنفق حقّ الرّجوع بما أنفق في بعض الأحوال‏.‏

وفي ذلك خلاف وتفصيل في بيان متى يحقّ له الرّجوع، ومتى لا يحقّ، إذ القاعدة الفقهيّة، أنّ من دفع ديناً عن غيره بلا أمره يعتبر متبرّعاً، ولا يرجع بما دفع‏.‏

والقاعدة الخامسة والسّبعون في قواعد ابن رجبٍ هي فيمن يرجع بما أنفق على مال غيره بغير إذنه، وفيها كثير من هذه المسائل‏.‏

وتنظر هذه المسائل في أبواب الفقه، كالشّركة والرّهن واللّقطة والزّكاة وغيرها، وفي مجمع الضّمانات كثير من هذه الأمثلة، وفي الفروق للقرافيّ‏:‏ كلّ من عمل عملاً أو أوصل نفعاً لغيره من مالٍ أو غيره بأمره أو بغير أمره نفذ ذلك، فإن كان متبرّعاً لم يرجع به، أو غير متبرّعٍ وهو منفعة فله أجر مثله، أو مال فله أخذه ممّن دفعه عنه بشرط أن يكون المنتفع لا بدّ له من عمل ذلك‏.‏

- 3- الشّرع‏:‏

14 - يعتبر المسلم بإسلامه ملتزماً بأحكام الإسلام وتكاليفه‏.‏

جاء في مسلّم الثّبوت‏:‏ الإسلام‏:‏ التزام حقيقة ما جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وممّا يعتبر المسلم ملتزماً به ما يلزمه به الشّارع نتيجة ارتباطاتٍ وعلاقاتٍ خاصّةٍ‏.‏ ومن ذلك‏:‏ إلزامه بالنّفقة على أقاربه الفقراء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف‏}‏‏.‏ وقوله سبحانه ‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وبالوالدين إحساناً‏}‏‏.‏

ومن ذلك الولاية الشّرعيّة، كولاية الأب والجدّ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏‏.‏

وذلك لوفور الشّفقة في الوليّ وعدم حسن تصرّف القاصر‏.‏

ومن ذلك الالتزام بقبول الميراث، وغير ذلك ممّا يعتبر المسلم ملتزماً به دون توقّفٍ على قبوله‏.‏ يقول الكاسانيّ‏:‏ اللّزوم هنا بإلزام من له ولاية الإلزام، وهو اللّه تبارك وتعالى، فلم يتوقّف على القبول، كسائر الأحكام الّتي تلزم بإلزام الشّرع ابتداءً‏.‏

على أنّه يمكن أن يضاف إلى هذه الأسباب‏:‏ الشّروع، فمن شرع في عبادةٍ غير واجبةٍ أصبح ملتزماً بإتمامها بالشّروع فيها، ووجب القضاء بفسادها، كما يقول المالكيّة والحنفيّة‏.‏ هذه هي المصادر الثّلاثة ‏(‏الفعل الضّارّ - والفعل النّافع - والشّرع‏)‏ الّتي عدّها المشتغلون بالفقه الإسلاميّ في العصر الحديث من مصادر الالتزام، إلاّ أنّها في الحقيقة تعتبر من باب الإلزام، وليست من باب الالتزام، كما مرّ في كلام الكاسانيّ‏.‏

15 - والفقهاء عبّروا في التّصرّفات النّاشئة عن إرادة الإنسان بأنّها التزام، أمّا ما كان بغير إرادته فالتّعبير فيها بالإلزام أو اللّزوم‏.‏ ذلك أنّ الالتزام الحقيقيّ‏.‏ هو ما أوجبه الإنسان على نفسه والتزم به‏.‏ ولذلك يقول القرافيّ‏:‏ إنّ الكافر إذا أسلم يلزمه ثمن البياعات وأجر الإجارات ودفع الدّيون الّتي اقترضها ونحو ذلك، ولا يلزمه القصاص والغصب والنّهب، لأنّ ما رضي به حال كفره واطمأنّت نفسه بدفعه لمستحقّه لا يسقط بالإسلام، وما لم يرض بدفعه لمستحقّه كالقتل والغصب ونحوه فإنّ هذه الأمور إنّما دخل عليها معتمداً على أنّه لا يوفّيها أجلها، فهذا كلّه يسقط، لأنّ في إلزامه ما لم يعتقد لزومه تنفيراً له عن الإسلام‏.‏

إلاّ إذا اعتبرنا هذه الإلزامات تنشئ التزاماتٍ حكماً وبذلك يمكن ردّ مصادر كلّ الالتزامات إلى الشّرع، فالشّرع هو الّذي رسم حدوداً لكلّ التّصرّفات، ما يصحّ منها وما لا يصحّ، ورتّب عليها أحكامها‏.‏

لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل لما أوجبه على الإنسان أسباباً مباشرةً، ومن ذلك أنّه جعل تصرّفات الإنسان الاختياريّة سبب التزاماته‏.‏

ويوضّح ذلك الزّركشيّ إذ يقول‏:‏ ما أوجبه اللّه على المكلّفين ينقسم إلى ما يكون سببه جنايةً ويسمّى عقوبةً، وإلى ما يكون سببه إتلافاً ويسمّى ضماناً، وإلى ما يكون سببه التزاماً ويسمّى ثمناً أو أجرةً أو مهراً أو غيره، ومنه أداء الدّيون والعواريّ والودائع، واجبة بالالتزام‏.‏ ويقول‏:‏ حقوق الآدميّين الماليّة تجب بسبب مباشرته من التزامٍ أو إتلافٍ‏.‏

الحكم التّكليفيّ للالتزام

16 - الالتزام بأحكام الإسلام أمر واجب على كلّ مسلمٍ‏.‏

ومن ذلك ما أوجبه عليه من عقوباتٍ وضمان متلفاتٍ والقيام بالنّفقات وأعمال الولاية‏.‏

أمّا بالنّسبة لتصرّفات الإنسان الاختياريّة فالأصل فيها الإباحة‏.‏ إذ لكلّ إنسانٍ الحرّيّة في أن يتصرّف التّصرّف المشروع الّذي يلتزم به أمراً، ما دام ذلك لم يمسّ حقّاً لغيره‏.‏ وقد تعرض له الأحكام التّكليفيّة الأخرى‏.‏

فيكون واجباً، كبذل المعونة بيعاً أو قرضاً أو إعارةً للمضطرّ لذلك‏.‏ وكوجوب قبول الوديعة إذا لم يكن من يصلح لذلك غيره، وخاف إن لم يقبل أن تهلك‏.‏

ويكون مندوباً، إذا كان من باب التّبرّعات الّتي تعين النّاس على مصالحهم، لأنّه إرفاق بهم، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البرّ والتّقوى‏}‏، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلّ معروفٍ صدقة»‏.‏

ويكون حراماً إذا كان فيه إعانة على معصيةٍ، ولذلك لا يصحّ إعارة الجارية لخدمة رجلٍ غير محرمٍ، ولا الوصيّة بخمرٍ لمسلمٍ، ولا نذر المعصية‏.‏

ويكون مكروهاً، إذا أعان على مكروهٍ، كمن يفضّل بعض أولاده في العطيّة‏.‏

أركان الالتزام

17 - ركن الالتزام عند الحنفيّة هو‏:‏ الصّيغة فقط ويزاد عليها عند غيرهم‏:‏ الملتزِم ‏(‏بكسر الزّاي‏)‏ والملتزم له، والملتزم به، أي محلّ الالتزام‏.‏

أوّلاً‏:‏ الصّيغة‏:‏

18 - تتكوّن الصّيغة من الإيجاب والقبول معاً في الالتزامات الّتي تتوقّف على إرادة الملتزم والملتزم له، كالنّكاح وكعقود المعاوضات، مثل البيع والإجارة، وهذا باتّفاقٍ‏.‏

أمّا الالتزامات بالتّبرّعات كالوقف والوصيّة والهبة ففيها اختلاف الفقهاء بالنّسبة للقبول‏.‏ ومن الالتزامات ما يتمّ بإرادة الملتزم وحده باتّفاقٍ، كالنّذر والعتق واليمين‏.‏

وصيغة الالتزام ‏(‏الإيجاب‏)‏ تكون باللّفظ أو ما يقوم مقامه من كتابةٍ أو إشارةٍ مفهمةٍ ونحوها ممّا يدلّ على إلزام الشّخص نفسه ما التزمه‏.‏

وقد يكون الالتزام بالفعل كالشّروع في الجهاد والحجّ، وكمن قام إلى الصّلاة فنوى وكبّر فقد عقدها لربّه بالفعل‏.‏ كذلك يكون الالتزام بمقتضى العادة، ومن القواعد الفقهيّة ‏(‏العادة محكّمة‏)‏ ومن ذلك من تزوّجت وهي ساكنة في بيتٍ لها، فسكن الزّوج معها، فلا كراء عليه، إلاّ إن تبيّن أنّها ساكنة بالكراء‏.‏

ويلاحظ أنّ أغلب الالتزامات قد ميّزت بأسماءٍ خاصّةٍ، فالالتزام بتسليم الملك بعوضٍ بيع، وبدونه هبة أو عطيّة أو صدقة، والالتزام بالتّمكين من المنفعة بعوضٍ إجارة، وبدونه إعارة أو وقف أو عمرى، وسمّي التزام الدّين ضماناً، ونقله حوالةً، والتّنازل عنه إبراءً، والتزام طاعة اللّه بنيّة القربة‏:‏ نذراً وهكذا‏.‏

ولكلّ نوعٍ من هذه الالتزامات صيغ خاصّة سواء أكانت صريحةً، أم كنايةً تحتاج إلى نيّةٍ أو قرينةٍ، وتنظر في أبوابها‏.‏

وقد ذكر الفقهاء ألفاظاً خاصّةً تعتبر صريحةً في الالتزام وهي‏:‏ التزمت، أو ألزمت نفسي‏.‏ ومنها أيضاً لفظ ‏(‏عليّ‏)‏ أو ‏(‏إليّ‏)‏، جاء في الهداية في باب الكفالة لو قال‏:‏ عليّ أو إليّ تصحّ الكفالة، لأنّها صيغة الالتزام، وقال مثل ذلك ابن عابدين‏.‏

وفي نهاية المحتاج‏:‏ شرط الصّيغة في الإقرار لفظ أو كتابة من ناطقٍ أو إشارة من أخرس تشعر بالالتزام بحقٍّ، مثل‏:‏ لزيدٍ هذا الثّوب ‏"‏ وعليّ ‏"‏ ‏"‏ وفي ذمّتي ‏"‏ للمدين الملتزم ‏"‏ ومعي ‏"‏ ‏"‏ وعندي ‏"‏ للعين‏.‏

ثانياً‏:‏ الملتزم‏:‏

19 - الملتزم هو من التزم بأمرٍ من الأمور كتسليم شيءٍ، أو أداء دينٍ، أو القيام بعملٍ‏.‏ والالتزامات متنوّعة على ما هو معروف‏.‏ فما كان منها من باب المعاوضات فإنّه يشترط فيه في الجملة أهليّة التّصرّف‏.‏ وما كان من باب التّبرّعات فيشترط فيه أن يكون أهلاً للتّبرّع‏.‏ وفي ذلك تفصيل من حيث تصرّف الوكيل والوليّ والفضوليّ، ومن الفقهاء من أجاز وصيّة السّفيه والصّبيّ المميّز كالحنابلة‏.‏ وينظر ذلك في أبوابه‏.‏

ثالثاً‏:‏ الملتزم له‏:‏

20 - الملتزم له الدّائن، أو صاحب الحقّ‏:‏ فإن كان الالتزام تعاقديّاً، وكان الملتزم له طرفاً في العقد، فإنّه يشترط فيه الأهليّة، أي أهليّة التّعاقد على ما هو معروف في العقود، وإلاّ تمّ ذلك بواسطة من ينوب عنه‏.‏

وإذا كان الالتزام بالإرادة المنفردة فلا يشترط في الملتزم له ذلك‏.‏

والّذي يشترط في الملتزم له في الجملة أن يكون ممّن يصحّ أن يملك، أو يملك النّاس الانتفاع به كالمساجد والقناطر‏.‏

وعلى ذلك فإنّه يصحّ الالتزام للحمل، ولمن سيوجد، فتصحّ الصّدقة عليه والهبة له‏.‏

وعند المالكيّة تجوز الوصيّة لميّتٍ علم الموصي بموته، ويصرف الموصى به في قضاء ما عليه من الدّيون، وإلاّ صرف لورثته وإلاّ بطلت الوصيّة‏.‏

كما أنّ كفالة دين الميّت المفلس جائزة، وقد أقرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد روى البخاريّ عن سلمة بن الأكوع «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي برجلٍ يصلّي عليه فقال‏:‏ هل عليه دين ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم ديناران، قال‏:‏ هل ترك لهما وفاءً ‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، فتأخّر، فقيل‏:‏ لم لا تصلّي عليه ‏؟‏ فقال‏:‏ ما تنفعه صلاتي وذمّته مرهونة إلاّ إن قام أحدكم فضمنه، فقام أبو قتادة فقال‏:‏ هما عليّ يا رسول اللّه، فصلّى عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم»‏.‏

كما أنّه يجوز الالتزام للمجهول، فقد نصّ الفقهاء على صحّة تنفيل الإمام في الجهاد بقوله محرّضاً للمجاهدين‏:‏ من قتل قتيلاً فله سلبه، وعندئذٍ من يقتل عدوّاً يستحقّ أسلابه، ولو لم يكن ممّن سمعوا مقالة الإمام‏.‏

ومن ذلك ما لو قال رجل‏:‏ من يتناول من مالي فهو مباح فتناول رجل من غير أن يعلم‏.‏ ومن ذلك أيضاً بناء سقايةٍ للمسلمين أو خانٍ لأبناء السّبيل‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مواضعه

رابعاً‏:‏ محلّ الالتزام ‏(‏الملتزم به‏)‏‏:‏

21 - الالتزام هو إيجاب الفعل الّذي يقوم به الملتزم كالالتزام بتسليم المبيع للمشتري، وتسليم الثّمن للبائع، وكالالتزام بأداء الدّين، والمحافظة على الوديعة، وتمكين المستأجر والمستعير من الانتفاع بالعين، والموهوب له من الهبة، والمسكين من الصّدقة، والقيام بالعمل في عقد الاستصناع والمساقاة والمزارعة، وفعل المنذور، وإسقاط الحقّ‏.‏‏.‏‏.‏ وكذا‏.‏ وهذه الالتزامات ترد على شيءٍ تتعلّق به، وهو قد يكون عيناً أو ديناً، أو منفعةً أو عملاً، أو حقّاً، وهذا ما يسمّى بمحلّ الالتزام أو موضوعه‏.‏

ولكلّ محلٍّ شروط خاصّة حسب طبيعة التّصرّف المرتبط به، والشّروط قد تختلف من تصرّفٍ إلى آخر، فما يجوز الالتزام به في تصرّفٍ قد لا يجوز الالتزام به في تصرّفٍ آخر‏.‏

إلاّ أنّه يمكن إجمال الشّروط بصفةٍ عامّةٍ مع مراعاة الاختلاف في التّفاصيل‏.‏

وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

أ - انتفاء الغرر والجهالة‏:‏

22 - يشترط بصفةٍ عامّةٍ في المحلّ الّذي يتعلّق به الالتزام انتفاء الغرر، والغرر ينتفي عن الشّيء - كما يقول ابن رشدٍ - بأن يكون معلوم الوجود، معلوم الصّفة، معلوم القدر، ومقدوراً على تسليمه‏.‏

وانتفاء الغرر شرط متّفق عليه في الجملة في الالتزامات الّتي تترتّب على المعاوضات المحضة كالبيع والإجارة، مبيعاً وثمناً ومنفعةً وعملاً وأجرةً‏.‏

هذا مع استثناء بعضها بالنّسبة لوجود محلّ الالتزام وقت التّصرّف كالسّلم والإجارة والاستصناع، فإنّها أجيزت استحساناً مع عدم وجود المسلم فيه والمنفعة والعمل، وذلك للحاجة‏.‏ ويراعى كذلك الخلاف في بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه‏.‏

وإذا كان شرط انتفاء الغرر متّفقاً عليه في المعاوضات المحضة، فإنّ الأمر يختلف بالنّسبة لغيرها من تبرّعاتٍ كالهبة بلا عوضٍ والإعارة، وتوثيقاتٍ كالرّهن والكفالة وغيرها‏.‏

فمن الفقهاء من يجيز الالتزام بالمجهول وبالمعدوم وبغير المقدور على تسليمه، ومنهم من لا يجيز ذلك‏.‏ وأكثرهم تمسّكاً بذلك الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏

23 - ومن العسير في هذا المقام تتبّع كلّ التّصرّفات لمعرفة مدى انطباق شرط انتفاء الغرر على كلّ تصرّفٍ‏.‏ ولذلك سنكتفي ببعض نصوص المذاهب الّتي تلقي ضوءاً على ذلك، على أن يرجع في التّفصيلات إلى مواضعها‏:‏

-1- في الفروق للقرافيّ‏:‏ الفرق الرّابع والعشرون بين قاعدة‏:‏ ما تؤثّر فيه الجهالات والغرر، وقاعدة‏:‏ ما لا يؤثّر فيه ذلك من التّصرّفات‏.‏ وردت الأحاديث الصّحيحة في «نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر وعن بيع المجهول»‏.‏

واختلف العلماء بعد ذلك، فمنهم من عمّمه في التّصرّفات، وهو الشّافعيّ، فمنع من الجهالة في الهبة والصّدقة والإبراء والخلع والصّلح وغير ذلك‏.‏

ومنهم من فصّل، وهو مالك، بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة، وهو باب المماكسات والتّصرّفات الموجبة لتنمية الأموال وما يقصد به تحصيلها، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة، وهو ما لا يقصد لذلك، وانقسمت التّصرّفات عنده ثلاثة أقسامٍ‏:‏ طرفان وواسطة‏.‏

24 - فالطّرفان‏:‏ أحدهما معاوضة صرفة، فيجتنب فيها ذلك إلاّ ما دعت الضّرورة إليه عادةً‏.‏

وثانيهما ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال، كالصّدقة والهبة والإبراء، فإنّ هذه التّصرّفات لا يقصد بها تنمية المال، بل إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه، فإن لم يبذل شيئاً بخلاف القسم الأوّل إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمة الشّرع منع الجهالات فيه‏.‏ أمّا الإحسان الصّرف فلا ضرر فيه، فاقتضت حكمة الشّرع وحثّه على الإحسان التّوسعة فيه بكلّ طريقٍ، بالمعلوم والمجهول، فإنّ ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعاً، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده، فيحصل له ما ينتفع به ولا ضرر عليه إن لم يجده، لأنّه لم يبذل شيئاً‏.‏ وهذا فقه جميل‏.‏ ثمّ إنّ الأحاديث لم يرد فيها ما يعمّ هذه الأقسام حتّى نقول‏:‏ يلزم منه مخالفة نصوص الشّرع، بل إنّما وردت في البيع ونحوه‏.‏

25 - وأمّا الواسطة بين الطّرفين فهو النّكاح، فهو من جهة أنّ المال فيه ليس مقصوداً - وإنّما مقصده المودّة والألفة والسّكون - يقتضي أن يجوز فيه الجهالة والغرر مطلقاً، ومن جهة أنّ صاحب الشّرع اشترط فيه المال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تبتغوا بأموالكم‏}‏ يقتضي امتناع الغرر والجهالة فيه‏.‏ فلوجود الشّبهين توسّط مالك فجوّز فيه الغرر القليل دون الكثير، نحو عبدٍ من غير تعيينٍ وشورة بيتٍ ‏(‏وهي الجهاز‏)‏، ولا يجوز على العبد الآبق والبعير الشّارد، لأنّ الأوّل يرجع فيه إلى الوسط المتعارف، والثّاني ليس له ضابط فامتنع، وألحق الخلع بأحد الطّرفين الأوّلين الّذي يجوز فيه الغرر مطلقاً، لأنّ العصمة وإطلاقها ليس من باب ما يقصد للمعاوضة، بل شأن الطّلاق أن يكون بغير شيءٍ فهو كالهبة‏.‏ فهذا هو الفرق، والفقه مع مالكٍ رحمه الله‏.‏

وفي الفروق كذلك‏:‏ اتّفق مالك وأبو حنيفة على جواز التّعليق في الطّلاق والعتاق قبل النّكاح وقبل الملك، فيقول للأجنبيّة‏:‏ إن تزوّجتك فأنت طالق، وللعبد‏:‏ إن اشتريتك فأنت حرّ، فيلزمه الطّلاق والعتاق إذا تزوّج واشترى خلافاً للشّافعيّ، ووافقنا الشّافعيّ على جواز التّصرّف بالنّذر قبل الملك، فيقول‏:‏ إن ملكت ديناراً فهو صدقة‏.‏

وجميع ما يمكن أن يتصدّق به المسلم في الذّمّة في باب المعاملات‏.‏ ودليل ذلك‏.‏

أوّلاً‏:‏ القياس على النّذر في غير المملوك بجامع الالتزام بالمعدوم‏.‏

وثانياً‏:‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏ والطّلاق والعتاق عقدان عقدهما على نفسه فيجب الوفاء بهما‏.‏

وثالثاً‏:‏ قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «المسلمون على شروطهم»، وهذان شرطان فوجب الوقوف معهما‏.‏

26 -/ 2- في المنثور للزّركشيّ‏:‏ من حكم العقود اللّازمة أن يكون المعقود عليه معلوماً مقدوراً على تسليمه في الحال، والجائز قد لا يكون كذلك، كالجعالة تعقد على ردّ الآبق‏.‏ ثمّ قال‏:‏ حيث اعتبر العوض في عقدٍ من الطّرفين أو من أحدهما فشرطه أن يكون معلوماً، كثمن المبيع وعوض الأجرة، إلاّ في الصّداق وعوض الخلع، فإنّ الجهالة فيه لا تبطله، لأنّ له مراداً ‏(‏بدلاً‏)‏ معلوماً وهو مهر المثل، وقد يكون العوض في حكم المجهول، كالعوض في المضاربة والمساقاة‏.‏

- 3- في إعلام الموقّعين بعد أن قرّر ابن القيّم أنّ العلّة في بطلان بيع المعدوم هي الغرر قال‏:‏ وكذلك سائر عقود المعاوضات بخلاف الوصيّة فإنّها تبرّع محض، فلا غرر في تعلّقها بالموجود والمعدوم، وما يقدر على تسليمه وما لا يقدر، وطرده ‏(‏مثاله‏)‏‏:‏ الهبة، إذ لا محذور في ذلك فيها، وقد صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبّة الشّعر حين أخذها من المغنم، وسأله أن يهبها له فقال‏:‏ «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لك»

27 -/ 4- في القواعد لابن رجبٍ في إضافة الإنشاءات والإخبارات إلى المبهمات قال‏:‏ أمّا الإنشاءات فمنها العقود، وهي أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ عقود التّمليكات المحضة كالبيع والصّلح بمعناه ‏(‏أي على بدلٍ‏)‏، وعقود التّوثيقات كالرّهن والكفالة، والتّبرّعات اللّازمة بالعقد أو بالقبض بعدةٍ كالهبة والصّدقة، فلا يصحّ في مبهمٍ من أعيانٍ متفاوتةٍ، كعبدٍ من عبيدٍ، وشاةٍ من قطيعٍ، وكفالة أحد هذين الرّجلين، وضمان أحد هذين الدّينين‏.‏ وفي الكفالة احتمال، لأنّه تبرّع، فهو كالإعارة والإباحة، ويصحّ في مبهمٍ من أعيانٍ متساويةٍ مختلطةٍ، كقفيزٍ من صبرةٍ، فإن كانت متميّزةً متفرّقةً ففيه احتمالان ذكرهما في التّلخيص، وظاهر كلام القاضي الصّحّة‏.‏

والثّاني‏:‏ عقود معاوضاتٍ غير متمحّضةٍ، كالصّداق وعوض الخلع والصّلح عن دم العمد، ففي صحّتها على مبهمٍ من أعيانٍ مختلفةٍ وجهان‏:‏ أصحّهما الصّحّة‏.‏

والثّالث‏:‏ عقد تبرّعٍ معلّق بالموت فيصحّ في المبهم بغير خلافٍ لما دخله من التّوسّع، ومثله عقود التّبرّعات، كإعارة أحد هذين الثّوبين وإباحة أحد هذين الرّغيفين، وكذلك عقود المشاركات والأمانات المحضة، مثل أن يقول‏:‏ ضارب بإحدى هاتين المائتين - وهما في كيسين - ودع الأخرى عندك وديعةً‏.‏ وأمّا الفسوخ فما وضع منها على التّغليب والسّراية صحّ في المبهم كالطّلاق والعتاق‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

ب - قابليّة المحلّ لحكم التّصرّف‏:‏

28 - يشترط كذلك في المحلّ الّذي يتعلّق به الالتزام‏:‏ أن يكون قابلاً لحكم التّصرّف، بمعنى ألاّ يكون التّصرّف فيه مخالفاً للشّرع‏.‏

وهذا الشّرط متّفق عليه بصفةٍ عامّةٍ مع الاختلاف في التّفاصيل‏.‏

يقول السّيوطيّ‏:‏ كلّ تصرّفٍ تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل‏.‏ فلذلك لم يصحّ بيع الحرّ ولا الإجارة على عملٍ محرّمٍ‏.‏

ويقول ابن رشدٍ في الإجارة‏:‏ ممّا اجتمعوا على إبطال إجارته‏:‏ كلّ منفعةٍ كانت لشيءٍ محرّم العين، كذلك كلّ منفعةٍ كانت محرّمةً بالشّرع، مثل أجر النّوائح وأجر المغنّيات، وكذلك كلّ منفعةٍ كانت فرض عينٍ على الإنسان بالشّرع، مثل الصّلاة وغيرها‏.‏

وفي المهذّب‏:‏ الوصيّة بما لا قربة فيه، كالوصيّة للكنيسة والوصيّة بالسّلاح لأهل الحرب باطلة‏.‏ وبالجملة فإنّه لا يصحّ الالتزام بما هو غير مشروعٍ، كالالتزام بتسليم الخمر أو الخنزير في بيعٍ أو هبةٍ أو وصيّةٍ أو غير ذلك، ولا الالتزام بالتّعامل بالرّبا، أو الزّواج بمن تحرم عليه شرعاً‏.‏ وهكذا‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مواضعه‏.‏

آثار الالتزام

آثار الالتزام هي‏:‏ ما تترتّب عليه، وهي المقصد الأصليّ للالتزام‏.‏ وتختلف آثار الالتزام تبعاً لاختلاف التّصرّفات الملزمة واختلاف الملتزم به، ومن ذلك‏:‏

‏(‏1‏)‏ ثبوت الملك‏:‏

29 - يثبت ملك العين أو المنفعة أو الانتفاع أو العوض وانتقاله للملتزم له في التّصرّفات الّتي تقتضي ذلك متى استوفت أركانها وشرائطها، مثل البيع والإجارة والصّلح والقسمة، ومع ملاحظة القبض فيما يشترط فيه القبض عند من يقول به‏.‏ وهذا باتّفاقٍ‏.‏

‏(‏2‏)‏ حقّ الحبس‏:‏

30 - يعتبر الحبس من آثار الالتزام‏.‏ فالبائع له حقّ حبس المبيع، حتّى يستوفي الثّمن الّذي التزم به المشتري، إلاّ أن يكون الثّمن مؤجّلاً‏.‏

والمؤجّر له حقّ حبس المنافع إلى أن يستلم الأجرة المعجّلة‏.‏ وللصّانع حقّ حبس العين بعد الفراغ من العمل إذا كان لعمله أثر في العين، كالقصّار والصّبّاغ والنّجّار والحدّاد‏.‏ والمرتهن له حقّ حبس المرهون حتّى يؤدّي الرّاهن ما عليه‏.‏ يقول ابن رشدٍ‏:‏ حقّ المرتهن في الرّهن أن يمسكه حتّى يؤدّي الرّاهن ما عليه، والرّهن عند الجمهور يتعلّق بجملة الحقّ المرهون فيه وببعضه، أعني أنّه إذا رهنه في عددٍ ما، فأدّى منه بعضه، فإنّ الرّهن بأسره يبقى بعد بيد المرتهن حتّى يستوفي حقّه‏.‏ وقال قوم‏:‏ بل يبقى من الرّهن بيد المرتهن بقدر ما يبقى من الحقّ، وحجّة الجمهور أنّه محبوس بحقٍّ، فوجب أن يكون محبوساً بكلّ جزءٍ منه، أصله ‏(‏أي المقيس عليه‏)‏ حبس التّركة على الورثة حتّى يؤدّوا الدّين الّذي على الميّت‏.‏ وحجّة الفريق الثّاني أنّ جميعه محبوس بجميعه، فوجب أن يكون أبعاضه محبوسةً بأبعاضه، أصله الكفالة‏.‏

ومن ذلك حبس المدين بما عليه من الدّين، إذا كان قادراً على أداء دينه وماطل في الأداء، وطلب صاحب الدّين حبسه من القاضي، وللغريم كذلك منعه من السّفر، لأنّ له حقّ المطالبة بحبسه‏.‏

‏(‏3‏)‏ التّسليم والرّدّ‏:‏

31 - يعتبر التّسليم من آثار الالتزام فيما يلتزم الإنسان بتسليمه‏.‏

فالبائع ملتزم بتسليم المبيع للمشتري، والمؤجّر ملتزم بتسليم العين وما يتبعها للمستأجر بحيث تكون مهيّأةً للانتفاع بها، والمشتري والمستأجر ملتزمان بتسليم العوض، وأجير الوحد ‏(‏الأجير الخاصّ‏)‏ ملتزم بتسليم نفسه، والكفيل ملتزم بتسليم ما التزم به، والزّوج ملتزم بتسليم الصّداق، والزّوجة ملتزمة بتسليم البضع، والواهب ملتزم بتسليم الموهوب عند من يرى وجوب الهبة، وربّ المال في السّلم والمضاربة مطالب بتسليم رأس المال‏.‏ وهكذا كلّ من التزم بتسليم شيءٍ وجب عليه القيام بالتّسليم‏.‏

ومثل ذلك ردّ الأمانات والمضمونات، سواء أكان الرّدّ واجباً ابتداءً أم بعد الطّلب، وذلك كالمودع والمستعار والمستأجر والقرض والمغصوب والمسروق واللّقطة إذا جاء صاحبها، وما عند الوكيل والشّريك والمضارب إذا فسخ المالك وهكذا‏.‏

مع اعتبار أنّ التّسليم في كلّ شيءٍ بحسبه، قد يكون بالإقباض، وقد يكون بالتّخلية والتّمكين من الملتزم به‏.‏

‏(‏4‏)‏ ثبوت حقّ التّصرّف‏:‏

يثبت للملتزم له حقّ التّصرّف في الملتزم به بامتلاكه، لكن يختلف نوع التّصرّف باختلاف نوع الملكيّة في الملتزم به، وذلك كما يأتي‏:‏

32 - أ - إذا كان الملتزم به تمليكاً للعين أو للدّين، فإنّه يثبت للمالك حقّ التّصرّف فيه بكلّ أنواع التّصرّف من بيعٍ وهبةٍ ووصيّةٍ وعتقٍ وأكلٍ ونحو ذلك، لأنّه أصبح ملكه، فله ولاية التّصرّف فيه‏.‏

وهذا إذا كان بعد القبض بلا خلافٍ، أمّا قبل القبض فإنّ الفقهاء يختلفون فيما يجوز التّصرّف فيه قبل القبض وما لا يجوز‏.‏

وبالجملة فإنّه لا يصحّ عند الحنفيّة والشّافعيّة، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد التّصرّف في الأعيان المملوكة في عقود المعاوضات قبل قبضها‏.‏ إلاّ العقار فيجوز بيعه قبل قبضه عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمّدٍ‏.‏ ودليل منع التّصرّف قبل القبض قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزامٍ‏:‏ «لا تبع ما لم تقبضه» ولأنّ فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك‏.‏

وعند المالكيّة، والمذهب عند الحنابلة‏:‏ أنّه يجوز التّصرّف قبل القبض إلاّ في الطّعام، فلا يجوز التّصرّف فيه قبل قبضه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يستوفيه»‏.‏

وأمّا الدّيون‏:‏ فعند الحنفيّة يجوز التّصرّف فيها قبل القبض إلاّ في الصّرف والسّلم‏:‏

أمّا الصّرف فلأنّ كلّ واحدٍ من بدلي الصّرف مبيع من وجهٍ وثمن من وجهٍ‏.‏ فمن حيث هو ثمن يجوز التّصرّف فيه قبل القبض، ومن حيث هو مبيع لا يجوز، فغلب جانب الحرمة احتياطاً‏.‏ وأمّا السّلم فلأنّ المسلم فيه مبيع بالنّصّ، والاستبدال بالمبيع المنقول قبل القبض لا يجوز‏.‏ وكذلك يجوز تصرّف المقرض في القرض قبل القبض عندهم، وذكر الطّحاويّ‏:‏ أنّه لا يجوز‏.‏ وعند المالكيّة يجوز التّصرّف في الدّيون قبل القبض فيما سوى الصّرف والسّلم، فإنّ الإمام مالكاً منع بيع المسلم فيه قبل قبضه في موضعين‏:‏

أحدهما‏:‏ إذا كان المسلم فيه طعاماً، وذلك بناءً على مذهبه في أنّ الّذي يشترط في صحّة بيعه القبض هو الطّعام، على ما جاء عليه النّصّ في الحديث‏.‏

والثّاني‏:‏ إذا لم يكن المسلم فيه طعاماً فأخذ عوضه المسلم ‏(‏صاحب الثّمن‏)‏ ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله، مثل أن يكون المسلم فيه عرضاً والثّمن عرضاً مخالفاً له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئاً من جنس ذلك العرض الّذي هو الثّمن، وذلك أنّ هذا يدخله إمّا سلف وزيادة، إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السّلم، وإمّا ضمان وسلف إن كان مثله أو أقلّ‏.‏

وعند الشّافعيّة إن كان الملك على الدّيون مستقرّاً، كغرامة المتلف وبدل القرض جاز بيعه ممّن عليه قبل القبض، لأنّ ملكه مستقرّ عليه، وهو الأظهر في بيعه من غيره‏.‏ وإن كان الدّين غير مستقرٍّ فإن كان مسلماً فيه لم يجز، وإن كان ثمناً في بيعٍ ففيه قولان‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ كلّ عوضٍ ملك بعقدٍ ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التّصرّف فيه قبل قبضه، كالأجرة وبدل الصّلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التّصرّف فيه قبل قبضه، كعوض الخلع وأرش الجناية وقيمة المتلف‏.‏

أمّا ما يثبت فيه الملك من غير عوضٍ، كالوصيّة والهبة والصّدقة، فإنّه يجوز في الجملة التّصرّف فيه قبل قبضه عند الجمهور‏.‏

33 - ب - وإذا كان الملتزم به تمليكاً للمنفعة، فإنّه يثبت لمالك المنفعة حقّ التّصرّف في الحدود المأذون فيها، وتمليك المنفعة لغيره كما في الإجارة والوصيّة بالمنفعة والإعارة وهذا عند المالكيّة وفي الإجارة عند جميع المذاهب، وفي غيرها اختلافهم، والقاعدة عند الحنفيّة‏:‏ أنّ المنافع الّتي تملك ببدلٍ يجوز تمليكها ببدلٍ كالإجارة، والّتي تملك بغير عوضٍ لا يجوز تمليكها بعوضٍ‏.‏ فالمستعير يملك الإعارة ولا يملك الإجارة‏.‏

34 - ج - وإذا كان الملتزم به حقّ الانتفاع فقط، فإنّ حقّ التّصرّف يقتصر على انتفاع الملتزم له بنفسه فقط، كما في العاريّة عند الشّافعيّة، وفي وجهٍ عند الحنابلة، وكالإباحة للطّعام في الضّيافات‏.‏

35 - د - وإذا كان الملتزم به إذناً في التّصرّف، فإنّه يثبت للمأذون له حقّ التّصرّف المطلق إذا كان الإذن مطلقاً، وإلاّ اقتصر التّصرّف على ما أذن به، وذلك كما في الوكالة والمضاربة‏.‏ وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في مواضعه‏.‏

‏(‏5‏)‏ منع حقّ التّصرّف‏:‏

36 - قد ينشأ من بعض الالتزامات منع حقّ التّصرّف ومن أمثلة ذلك‏:‏ الرّهن، فلا يصحّ تصرّف الرّاهن في المرهون ببيعٍ أو غيره، لأنّ المرتهن أخذ العين بحقّه في الرّهن، وهو التّوثّق باستيفاء دينه وقبض المرهون‏.‏ فالمرتهن بالنّسبة إلى الرّهن كغرماء المفلس المحجور عليه‏.‏

‏(‏6‏)‏ صيانة الأنفس والأموال‏:‏

37 - الأصل أنّ المسلم ملتزم بحكم إسلامه بالمحافظة على دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النّحر‏:‏ «إنّ دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»‏.‏

أمّا بالنّسبة لغير المسلمين، فإنّ ممّا يصون دماءهم وأموالهم التزام المسلمين بذلك بسبب العقود الّتي تتمّ معهم، كعقد الأمان المؤقّت أو الدّائم‏.‏ إذ ثمرة الأمان حرمة قتلهم واسترقاقهم وأخذ أموالهم، ما داموا ملتزمين بموجب عقد الأمان أو عقد الذّمّة‏.‏

ومن صيانة الأموال‏:‏ الالتزام بحفظ الوديعة بجعلها في مكان أمينٍ‏.‏ وقد يجب الالتزام بذلك حرصاً على الأموال، ولذلك يقول الفقهاء‏:‏ إن لم يكن من يصلح لأخذ الوديعة غيره وخاف إن لم يقبل أن تهلك تعيّن عليه قبولها، لأنّ حرمة المال كحرمة النّفس، لما روى ابن مسعودٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه»‏.‏ ولو خاف على دمه لوجب عليه حفظه، فكذلك إذا خاف على ماله‏.‏

ومن ذلك أخذ اللّقطة واللّقيط، إذ يجب الأخذ إذا خيف الضّياع، لأنّ حفظ مال الغير واجب، قال ابن رشدٍ‏:‏ يلزم أن يؤخذ اللّقيط ولا يترك، لأنّه إن ترك ضاع وهلك، لا خلاف بين أهل العلم في هذا، وإنّما اختلفوا في لقطة المال، وهذا الاختلاف إنّما هو إذا كانت بين قومٍ مأمونين والإمام عدل‏.‏ أمّا إذا كانت بين قومٍ غير مأمونين فأخذها واجب قولاً واحداً‏.‏

ومن ذلك الالتزام بالولاية الشّرعيّة لحفظ مال الصّغير واليتيم والسّفيه‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مواضعه‏.‏

‏(‏7‏)‏ الضّمان‏:‏

38 - الضّمان أثر من آثار الالتزام، وهو يكون بإتلاف مال الغير أو الاعتداء عليه بالغصب أو السّرقة أو بالتّعدّي في الاستعمال المأذون فيه في المستعار والمستأجر أو بالتّفريط وترك الحفظ كما في الوديعة‏.‏ يقول الكاسانيّ‏:‏ تتغيّر صفة المستأجر من الأمانة إلى الضّمان بأشياء منها‏:‏ ترك الحفظ، لأنّ الأجير لمّا قبض المستأجر فقد التزم حفظه، وترك الحفظ الملتزم سبب لوجوب الضّمان، كالمودع إذا ترك الحفظ حتّى ضاعت الوديعة‏.‏ وكذلك يضمن بالإتلاف والإفساد إذا كان الأجير متعدّياً فيه، إذ الاستعمال المأذون فيه مقيّد بشرط السّلامة‏.‏ ويقول السّيوطيّ‏:‏ أسباب الضّمان أربعة‏:‏

الأوّل‏:‏ العقد، ومن أمثلته ضمان المبيع، والثّمن المعيّن قبل القبض، والمسلم فيه، والمأجور‏.‏

والثّاني‏:‏ اليد، مؤتمنةً كانت كالوديعة والشّركة والوكالة والمقارضة إذا حصل التّعدّي، أو غير مؤتمنةٍ كالغصب والسّوم والعاريّة والشّراء فاسداً‏.‏

والثّالث‏:‏ الإتلاف للنّفس أو المال‏.‏

والرّابع‏:‏ الحيلولة‏.‏

ويقول ابن رشدٍ‏:‏ الموجب للضّمان إمّا المباشرة لأخذ المال المغصوب أو لإتلافه، وإمّا المباشرة للسّبب المتلف، وإمّا إثبات اليد عليه‏.‏ وفي القواعد لابن رجبٍ‏:‏ أسباب الضّمان ثلاثة‏:‏ عقد، ويد، وإتلاف‏.‏ وفي كلّ ذلك خلاف وتفصيلات وتفريعات تنظر في مواضعها‏.‏

حكم الوفاء بالالتزام وما يتعلّق به

39 - الأصل في الالتزام أنّه يجب الوفاء به امتثالاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود‏}‏ والمراد بالعقود كما يقول الفقهاء‏:‏ ما عقده المرء على نفسه من بيعٍ وشراءٍ وإجارةٍ وكراءٍ ومناكحةٍ وطلاقٍ ومزارعةٍ ومصالحةٍ وتمليكٍ وتخييرٍ وعتقٍ وتدبيرٍ، وكذلك العهود والذّمم الّتي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذّمّة والخوارج، وما عقده الإنسان على نفسه للّه تعالى من الطّاعات كالحجّ والصّيام والاعتكاف والنّذر واليمين وما أشبه ذلك، فيلزم الوفاء بها‏.‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المسلمون على شروطهم» عامّ في إيجاب الوفاء بجميع ما يشرطه الإنسان على نفسه، ما لم تقم دلالة تخصّصه‏.‏

لكن هذا الحكم ليس عامّاً في كلّ الالتزامات، وذلك لتنوّع الالتزامات بحسب اللّزوم وعدمه وبيان ذلك فيما يأتي‏:‏

‏(‏1‏)‏ الالتزامات الّتي يجب الوفاء بها‏:‏

40 - أ - الالتزامات الّتي تنشأ بسبب العقود اللّازمة بين الطّرفين، كالبيع والإجارة والصّلح وعقود الذّمّة، فهذه الالتزامات متى تمّت صحيحةً لازمةً وجب الوفاء بها ما لم يحدث ما يقتضي الفسخ، كالهلاك والاستحقاق والرّدّ بالعيب، وهذا شامل للأعيان الواجب تسليمها، وللدّيون الّتي تكون في الذّمم كبدل القرض وثمن المبيع والأجرة في الإجارة أو الّتي تنشأ نتيجة إنفاذ مال الغير على خلافٍ وتفصيلٍ‏.‏

ب - الالتزامات الّتي تنشأ نتيجة التّعدّي بالغصب أو السّرقة أو الإتلاف أو التّفريط‏.‏

ج - الأمانات الّتي تكون عند الملتزم، سواء أكانت بموجب عقدٍ كالوديعة، أم لم تكن كاللّقطة وكمن أطارت الرّيح ثوباً إلى داره‏.‏

د - نذر القربات، وهو ما يلتزم به الإنسان من قرباتٍ بدنيّةٍ أو ماليّةٍ طاعةً وتقرّباً إلى اللّه سبحانه وتعالى‏.‏

هـ- الالتزامات التّكليفيّة الشّرعيّة، ومنها النّفقات الواجبة‏.‏ فهذه الالتزامات لا خلاف في وجوب الوفاء بها، منجزةً إن كانت كذلك، وبعد تحقّق الشّرط المشروع إن كانت معلّقةً، وعند دخول الوقت إن كانت مضافةً، وسواء أكان الوفاء لا يجب إلاّ بعد الطّلب أم يجب بدونه‏.‏ ويتحقّق الوفاء بالأداء والتّسليم أو القيام بالعمل أو الإبراء أو المقاصّة وهكذا‏.‏ ودليل الوجوب الآية السّابقة، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليوفوا نذورهم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته‏}‏‏.‏

والتّخلّف عن الوفاء بغير عذرٍ يستوجب العقوبة الدّنيويّة والأخرويّة، إذ العقوبة واجبة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» فعقوبته حبسه، وعرضه أن يحلّ القول في عرضه بالإغلاظ‏.‏ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مطل الغنيّ ظلم»‏.‏

ولذلك يجبر الممتنع عن الوفاء بالضّرب أو الحبس أو الحجر ومنع التّصرّف في المال، أو بيع مال الملتزم والوفاء منه‏.‏ إلاّ إذا كان الملتزم معسراً فيجب إنظاره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرة إلى ميسرةٍ‏}‏‏.‏

41 - وما سبق إنّما هو في الجملة، إذ للفقهاء في ذلك تفصيلات وتفريعات، ومن ذلك مثلاً‏:‏ اختلافهم في الإجبار على الوفاء بالنّذر المشروع عند الامتناع، فعند المالكيّة يقضى بالنّذر المطلق إذا كان لمعيّنٍ، وإن كان لغير معيّنٍ يؤمر بالوفاء ولا يقضى به على المشهور، وقيل يقضى به، وفيه الخلاف أيضاً عند الشّافعيّة‏.‏ ومن ذلك أنّ أبا حنيفة لا يجيز الحجر في الدّين، لأنّ في الحجر إهدار آدميّة المدين، بل لا يجيز للحاكم التّصرّف في ماله، وإنّما يجبره على بيعه لوفاء دينه‏.‏ وهكذا، وينظر تفصيل ذلك في مواضعه‏.‏

‏(‏2‏)‏- التزامات يستحبّ الوفاء بها ولا يجب‏:‏

42 - أ - الالتزامات الّتي تنشأ من عقود التّبرّعات كالقرض والهبة والعاريّة والوصيّة‏.‏

ب - الالتزام النّاشئ بالوعد، فهذه الالتزامات يستحبّ الوفاء بها، لأنّها من المعروف الّذي ندب إليه الشّارع، يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البرّ والتّقوى‏}‏ ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من نفّس عن مسلمٍ كربةٍ من كرب الدّنيا نفّس اللّه عنه كربةً من كرب يوم القيامة» ويقول‏:‏ «تهادوا تحابّوا»‏.‏

لكن لا يجب الوفاء بها، ففي الوصيّة يجوز بالاتّفاق الرّجوع فيها ما دام الموصي حيّاً‏.‏ وفي العاريّة والقرض يجوز الرّجوع بطلب المستعار وبدل القرض في الحال بعد القبض، وهذا عند غير المالكيّة، بل قال الجمهور‏:‏ إنّ المقرض إذا أجّل القرض لا يلزمه التّأجيل، لأنّه لو لزم فيه الأجل لم يبق تبرّعاً‏.‏

أمّا المالكيّة فإنّ العاريّة والقرض إذا كانا مؤجّلين فذلك لازم إلى أن ينقضي الأجل، وإن كانا مطلقين لزم البقاء فترةً ينتفع بمثله فيها، واستندوا إلى ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم«أنّه ذكر رجلاً سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينارٍ فدفعها إليه إلى أجلٍ مسمًّى»‏.‏ وقال ابن عمر وعطاء‏:‏ إذا أجّله في القرض جاز‏.‏

ويجوز الرّجوع في الهبة قبل القبض عند الجمهور، فإذا تمّ القبض فلا رجوع عند الشّافعيّة والحنابلة إلاّ فيما وهب الوالد لولده، وعند الحنفيّة يجوز الرّجوع إن كانت لأجنبيٍّ‏.‏

أمّا المالكيّة فلا رجوع عندهم في الهبة قبل القبض وبعده في الجملة، إلاّ فيما يهبه الوالد لولده‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مواضعه‏.‏

43 - والوعد كذلك يستحبّ الوفاء به باتّفاقٍ‏.‏ يقول القرافيّ‏:‏ من أدب العبد مع ربّه إذا وعد ربّه بشيءٍ لا يخلفه إيّاه، لا سيّما إذا التزمه وصمّم عليه، فأدب العبد مع اللّه سبحانه وتعالى بحسن الوفاء وتلقّي هذه الالتزامات بالقبول‏.‏

لكن الوفاء به ليس بواجبٍ في الجملة، ففي البدائع‏:‏ الوعد لا شيء فيه وليس بلازمٍ، وفي منتهى الإرادات‏:‏ لا يلزم الوفاء بالوعد نصّاً، وفي نهاية المحتاج‏:‏ لو قال‏:‏ أؤدّي المال أو أحضر الشّخص، فهو وعد لا يلزم الوفاء به، لأنّ الصّيغة غير مشعرةٍ بالالتزام‏.‏

إلاّ أنّه إذا كانت هناك حاجة تستدعي الوفاء بالوعد فإنّه يجب الوفاء به‏.‏ فقد نقل ابن عابدين عن جامع الفصولين‏:‏ لو ذكر البيع بلا شرطٍ، ثمّ ذكر الشّرط على وجه العدة، جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمةً فيجعل لازماً لحاجة النّاس‏.‏ والمشهور عند المالكيّة أنّ الوعد يلزم ويقضى به إذا دخل الموعود بسبب الوعد في شيءٍ، قال سحنونٍ‏:‏ الّذي يلزم من الوعد إذا قال‏:‏ اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحجّ أو اشتر سلعةً أو تزوّج وأنا أسلفك، لأنّك أدخلته بوعدك في ذلك، أمّا مجرّد الوعد فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ قولهم الوعد لا يجب الوفاء به مشكل، لمخالفته ظاهر الآيات والسّنّة، ولأنّ خلفه كذب، وهو من خصال المنافقين‏.‏

‏(‏3‏)‏ التزامات يجوز الوفاء بها ولا يجب‏:‏

44 - أ - الالتزامات الّتي تنشأ نتيجة العقود الجائزة بين الطّرفين، كالوكالة والشّركة والقراض، فهذه يجوز لكلٍّ من الطّرفين فسخها وعدم الالتزام بمقتضاها، هذا مع مراعاة ما يشترطه بعض الفقهاء حين الفسخ من نضوض رأس المال في المضاربة، وكتعلّق حقّ الغير بالوكالة‏.‏

ب - نذر المباح‏:‏ يقول القرطبيّ‏:‏ نذر المباح لا يلزم بإجماعٍ من الأمّة، وقال ابن قدامة‏:‏ نذر المباح، كلبس الثّوب وركوب الدّابّة وطلاق المرأة على وجهٍ مباحٍ، فهذا يتخيّر فيه النّاذر بين فعله فيبرّ، وإن شاء تركه وعليه كفّارة يمينٍ، ويتخرّج أن لا كفّارة عليه‏.‏

‏(‏4‏)‏ التزامات يحرم الوفاء بها‏:‏

45 - الالتزام بما لا يلزم لا يجب فيه الوفاء، بل قد يكون الوفاء حراماً، وذلك إذا كان التزاماً بمعصيةٍ‏.‏ ومن ذلك‏:‏

أ - نذر المعصية حرام باتّفاقٍ، فمن قال‏:‏ للّه عليّ أن أشرب الخمر، أو أقتل فلاناً، فإنّ هذا الالتزام حرام في ذاته، وأيضاً يحرم الوفاء به، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه» وفي وجوب الكفّارة خلاف ‏(‏ر‏:‏ نذر - كفّارة‏)‏‏.‏

ب - وكذلك اليمين على فعلٍ محرّمٍ، فمن حلف على ترك واجبٍ أو فعل حرامٍ، فقد عصى بيمينه‏.‏ ولزمه الحنث والكفّارة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ كفّارة - أيمان‏)‏‏.‏

ج - الالتزام المعلّق على فعلٍ محرّمٍ على الملتزم له، كقوله‏:‏ إن قتلت فلاناً أو شربت الخمر فلك كذا وكذا، فإنّه حرام يحرم الوفاء به‏.‏

د - ما كان الالتزام فيه بإسقاط حقّ اللّه أو حقّ غير الملتزم، فلا يجوز الصّلح عن حقّ اللّه كدعوى حدٍّ، ولا عن حقّ الغير، فلو أنّ امرأةً طلّقها زوجها وادّعت عليه صبيّاً في يده أنّه ابنه منها وجحد الرّجل، فصالحت عن النّسب على شيءٍ، فالصّلح باطل، لأنّ النّسب حقّ الصّبيّ‏.‏ ولو باع ذهباً بفضّةٍ مؤجّلاً لم يصحّ، لأنّ القبض في الصّرف لحقّ اللّه‏.‏

هـ- الشّروط الباطلة لا يجوز الالتزام بها ومن ذلك‏:‏

46- من خالع زوجته على أن تتحمّل بالولد مدّةً معيّنةً وشرط عليها ألاّ تتزوّج بعد الحولين ‏(‏مدّة الرّضاع‏)‏ أي أنّه شرط عليها ترك النّكاح بعد الحولين، فلا اختلاف أنّ ذلك لا يلزمها الوفاء به، لأنّ هذا الشّرط فيه تحريم ما أحلّ اللّه‏.‏ والخلع صحيح‏.‏

ومن ذلك ما يقوله المالكيّة فيمن باع حائطه ‏(‏حديقته‏)‏ وشرط في عقد البيع أنّ الجائحة لا توضع عن المشتري، فالبيع جائز والشّرط باطل، ولا يلتزم به المشتري‏.‏

وفي البدائع للكاسانيّ‏:‏ لو وهب داراً على أن يبيعها، أو على أن يبيعها لفلانٍ، أو على أن يردّها عليه بعد شهرٍ جازت الهبة وبطل الشّرط‏.‏ وهي شروط تخالف مقتضى العقد، فتبطل ويبقى العقد على الصّحّة، بخلاف البيع‏.‏

وفي المهذّب‏:‏ لو شرط في القرض شرطاً فاسداً بطل الشّرط، وفي القرض وجهان‏.‏ والأمثلة من هذا النّوع كثيرة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ بيع - اشتراط‏)‏‏.‏

وفي حالة عقد الهدنة يستثنى حالة الضّرورة أو الحاجة‏.‏ جاء في جواهر الإكليل، يجوز للإمام مهادنة الحربيّين لمصلحةٍ، إن خلت المهادنة عن شرطٍ فاسدٍ، كأن كانت على مالٍ يدفعه لهم فلا يجوز، لقوله تعالى‏:‏‏{‏ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏}‏ إلاّ لضرورة التّخلّص منهم خوف استيلائهم على المسلمين، فيجوز دفع المال لهم، «وقد شاور النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في مثل ذلك»، فلو لم يكن الإعطاء جائزاً عند الضّرورة ما شاور فيه‏.‏

وفي الأشباه لابن نجيمٍ، ومثله في المنثور للزّركشيّ‏:‏ ما حرم أخذه حرم إعطاؤه، كالرّبا ومهر البغيّ وحلوان الكاهن والرّشوة للحاكم إذا بذلها ليحكم له بغير الحقّ، إلاّ في مسائل في الرّشوة لخوفٍ على نفسه أو ماله أو لفكّ أسيرٍ أو لمن يخاف هجوه‏.‏ وينبغي أن يكون مثله إعطاء الرّبا للضّرورة فيأثم المقرض دون المقترض‏.‏

الأوصاف المغيّرة لآثار الالتزام

إذا تمّت التّصرّفات الملزمة بأيّ نوعٍ من أنواع الالتزام مستوفيةً أركانها وشرائطها ترتّبت عليها آثارها ووجب تنفيذ الالتزام‏.‏ لكن قد يتّصل بالتّصرّف بعض الأوصاف الّتي تغيّر من آثار الالتزام، فتوقفه أو تزيد عليه التزاماً آخر أو تبطله، وبيان ذلك فيما يأتي‏:‏

أوّلاً‏:‏ الخيارات‏:‏

47 - من الخيارات ما يتّصل بالتّصرّف، فيتوقّف لزومه ويتأخّر تنفيذ الالتزام إلى أن يبتّ فيها، فيتبيّن ما ينفذ وما لا ينفذ‏.‏ والخيارات كثيرة، ولكنّا نكتفي بالخيارات المشهورة عند الحنفيّة‏.‏ وهي خيار الشّرط والتّعيين والرّؤية والعيب‏.‏

يقول ابن عابدين‏:‏ من الخيارات ما يمنع ابتداء الحكم، وهما خيار الشّرط والتّعيين، ومنه ما يمنع تمام الحكم كخيار الرّؤية، ومنه ما يمنع لزومه كخيار العيب‏.‏

ويقول الكاسانيّ‏:‏ شرائط لزوم البيع بعد انعقاده ونفاذه وصحّته أن يكون خالياً من خياراتٍ أربعةٍ‏:‏ خيار الشّرط، والتّعيين والرّؤية، والعيب‏.‏ فلا يلزم مع هذه الخيارات إذ لا بدّ للّزوم من الرّضى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم‏}‏‏.‏

وفي الموضوع تفصيلات كثيرة بالنّسبة للتّصرّفات الّتي تدخلها الخيارات والتّصرّفات الّتي لا تدخلها، وبالنّسبة لما هو عند المذاهب الأخرى، فخيار التّعيين مثلاً لا يأخذ به الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة لمخالفته للقياس‏.‏ وكذلك خيار الرّؤية بالنّسبة للشّافعيّة، ولغيرهم تفصيل فيه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ خيار‏)‏

ثانياً‏:‏ الشّروط‏:‏

48 - الشّرط قد يكون تعليقيّاً، وقد يكون تقييديّاً‏:‏ فالشّرط التّعليقيّ‏:‏ هو ربط وجود الشّيء بوجود غيره، أي أنّ الملتزم يعلّق تنفيذ التزامه على وجود ما شرطه‏.‏ وبذلك يكون أثر الشّرط التّعليقيّ في الالتزام هو توقّف تنفيذ الالتزام حتّى يحصل الشّرط، فعند المالكيّة مثلاً إذا قال لشخصٍ‏:‏ إن بنيت بيتك، أو إن تزوّجت فلك كذا فهو لازم، إذا وقع المعلّق عليه‏.‏ وهذا طبعاً في التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق، كالإسقاطات والإطلاقات والالتزام بالقرب بالنّذر‏.‏ أمّا التّصرّفات الّتي لا تقبل التّعليق كالبيع والنّكاح، فإنّ التّعليق يمنع الانعقاد لعدم صحّة التّصرّفات حينئذٍ‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ شرط - تعليق‏)‏‏.‏

وأمّا الشّرط التّقييديّ فهو ما جزم فيه بالأصل وشرط فيه أمراً آخر‏.‏

وأمّا أثره في الالتزام، فإن كان صحيحاً، فما كان منه ملائماً للتّصرّف، كمن يبيع ويشترط على المشتري أن يعطيه بالثّمن رهناً أو كفيلاً‏.‏‏.‏‏.‏ أو كان جرى به التّعامل بين النّاس كمن يشتري جراباً على أن يخرزه له البائع‏.‏‏.‏‏.‏ فإنّه ينشئ التزاماً زائداً على الالتزام الأصليّ، كما هو واضح من الأمثلة ويجب الوفاء به‏.‏ أمّا إن كان مؤكّداً لمقتضى التّصرّف، كاشتراط التّسليم في البيع مثلاً، فلا أثر له في الالتزام، إذ الشّرط هنا تأكيد وبيان لمقتضى الالتزام‏.‏ وإن كان الشّرط فاسداً، فإن كان لا يقتضيه التّصرّف وليس ملائماً له ولا جرى به التّعامل بين النّاس وفيه منفعة لها صاحب يطالب بها، كمن يبيع الدّار على أن يسكنها البائع شهراً، أو الثّوب على أن يلبسه أسبوعاً، فإنّ هذا الشّرط فاسد ويفسد معه التّصرّف، وبالتّالي يفسد الالتزام الأصليّ للتّصرّف حيث قد فسد مصدره‏.‏

وهذا عند الحنفيّة، وهو يجري في عقود المبادلات الماليّة فقط، خلافاً للتّبرّعات كالهبة حيث يفسد الشّرط ويبقى التّصرّف في الالتزام به كما هو، ويصبح الشّرط لا أثر له في الالتزام‏.‏

وأمّا عند الشّافعيّة فإنّ مثل هذا الشّرط يفسد، ويفسد معه التّصرّف، ويجرون هذا في كلّ التّصرّفات‏.‏

أمّا المالكيّة، فإنّ الشّرط الّذي يفسد التّصرّف عندهم، فهو ما كان منافياً لمقتضى العقد، أو كان مخلّاً بالثّمن‏.‏ وقريب من هذا مذهب الحنابلة‏.‏ إذ هو عندهم‏:‏ ما كان منافياً لمقتضى العقد، أو كان العقد يشتمل على شرطه‏.‏ أمّا ما كان فيه منفعة لأحدٍ، فإنّه غير فاسدٍ عندهم إذا كانت المنفعة معلومةً‏.‏ فمن يبيع الدّار ويشترط سكناها شهراً مثلاً فشرطه صحيح ويجب الوفاء به‏.‏ واستدلّوا بحديث جابرٍ أنّه «باع النّبيّ صلى الله عليه وسلم جملاً، واشترط ظهره إلى المدينة أي ركوبه»، وفي لفظٍ قال‏:‏ «بعته واستثنيت حملانه إلى أهلي»‏.‏

على أنّ الجمهور ومعهم أبو حنيفة متّفقون على أنّ من باع عبداً واشترط أن يعتقه المشتري فهو شرط صحيح يجب الوفاء به، لتشوّف الشّارع للحرّيّة، بل إنّ من الفقهاء من قال‏:‏ يجبر المشتري على ذلك‏.‏

وأمّا إن كان الشّرط بغير ما ذكر، فإنّه يفسد هو ويبقى التّصرّف صحيحاً فيجب الوفاء به‏.‏ وفي الموضوع تفصيلات كثيرة ‏(‏ر‏:‏ اشتراط، شرط‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ الأجل‏:‏

49 - الأجل هو المدّة المتّفق عليها المستقبلة المحقّقة الوقوع‏.‏ والالتزام قد يكون مؤجّلاً إذا كان الأجل أجل توقيتٍ، فإنّه يجعل تنفيذ الالتزام مستمرّاً طوال المدّة المحدّدة حتّى تنتهي، فمن أجّر داراً لمدّة شهرٍ أصبح من حقّ المستأجر الانتفاع بالدّار في هذه المدّة ولا يجوز للملتزم - وهو المؤجّر - أن يطالبه بتسليم الدّار قبل انتهاء الأجل المضروب‏.‏

وإذا كان أجل إضافةٍ، فإنّ تنفيذ الالتزام لا يبدأ إلاّ عند حلول الأجل، فالدّين المؤجّل إلى رمضان يمنع الدّائن من المطالبة قبل دخول رمضان‏.‏ فإذا حلّ الأجل وجب على الملتزم بالدّين الوفاء، وصار من حقّ الدّائن المطالبة بدينه‏.‏

والتّصرّفات تختلف بالنّسبة للأجل توقيتاً أو إضافةً، فمنها ما هو مؤقّت أو مضاف بطبيعته، كالإجارة والمساقاة والوصيّة، ومنها ما هو منجز ولا يقبل التّأقيت بحالٍ كالصّرف والنّكاح، وإذا دخلهما التّأقيت بطلا، ويكون أثر التّأقيت هنا بطلان الأجل‏.‏

وأمّا العقد فيبطل في الصّرف إجماعاً‏.‏ وفي النّكاح عند الأكثرين‏.‏

ومنها ما يكون الأصل فيه التّنجيز كالثّمن في البيع لكن يجوز تأجيله إرفاقاً فيتغيّر أثر الالتزام من التّسليم الفوريّ إلى تأخيره إلى الأجل المحدّد‏.‏

على أنّ التّصرّفات الّتي تقبل التّأجيل يشترط فيها في الجملة‏:‏ أن يكون الأجل معلوماً، إذ في الجهالة غرر يؤدّي إلى النّزاع، وألاّ يعتاض عن الأجل، إذ الاعتياض عنه يؤدّي إلى الرّبا‏.‏ ويكون الأثر حينئذٍ بطلان الشّرط‏.‏ وهذا في الجملة كما ذكرنا، إذ من التّصرّفات ما يكون الأجل فيه مجهولاً بطبيعته، كالجعالة والوصيّة، ويلحق بهما الوكالة والقراض والإذن في التّجارة إذا لم يحدّد للعمل مدّةً‏.‏ كذلك التّبرّعات عند المالكيّة تجوز إلى أجلٍ مجهولٍ‏.‏ وفي كلّ ذلك تفصيلات مطوّلة تنظر في مواضعها وفي ‏(‏بحث‏:‏ أجل‏)‏‏.‏

توثيق الالتزام

50 - توثيق الالتزام - أي إحكامه وإثباته - أمر مشروع لاحتياج النّاس إلى معاملة من لا يعرفونه، خشية جحد الحقوق أو ضياعها‏.‏ وقد شرع اللّه سبحانه وتعالى للنّاس ما يضمن لهم حقوقهم بتوثيقها، وجعل لذلك طرقاً متعدّدةً وهي‏:‏

‏(‏1‏)‏ الكتابة والإشهاد‏:‏

51 - شرع اللّه سبحانه وتعالى الكتابة والإشهاد صيانةً للحقوق، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ وقد أوجب الشّرع توثيق بعض الالتزامات لخطره كالنّكاح، وقريب منه طلب الشّفعة فلا تثبت عند الإنكار إلاّ بالبيّنة، ومثله الإشهاد عند دفع مال اليتيم إليه عند البلوغ والرّشد‏.‏

ومن الالتزامات ما اختلف في وجوب الإشهاد فيه أو استحبابه، كالبيع والإجارة والسّلم والقرض والرّجعة‏.‏

والشّهادة تعتبر من البيّنات الّتي يثبت بها الحقّ‏.‏ ولبيان ما يجب فيه الإشهاد وما لا يجب، وبيان شروط الشّهادة في الحقوق من حيث التّحمّل والأداء والعدد وصفة الشّاهد والمشهود به ينظر‏:‏ ‏(‏إثبات، إشهاد - شهادة - أداء - تحمّل‏)‏‏.‏

‏(‏2‏)‏ الرّهن‏:‏

52 - الرّهن شرع كذلك لتوثيق الالتزامات، لأنّه احتباس العين ليستوفي الحقّ من ثمنها، أو من ثمن منافعها عند تعذّر أخذه من الغريم‏.‏ والأصل في مشروعيّته قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة‏}‏‏.‏ وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «اشترى طعاماً من يهوديٍّ إلى أجلٍ ورهنه درعاً من حديدٍ»‏.‏

والرّهن مشروع بطريق النّدب لا بطريق الوجوب، بدليل قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته‏}‏، ولأنّه أمر به عند عدم تيسّر الكتابة، والكتابة غير واجبةٍ فكذلك بدلها‏.‏

هذا وللرّهن شروط من حيث كونه مقبوضاً وكونه بدينٍ لازمٍ وغير ذلك ‏(‏ر‏:‏ رهن‏)‏‏.‏

‏(‏3‏)‏ الضّمان والكفالة‏:‏

53 - الضّمان والكفالة قد يستعملان بمعنًى واحدٍ، وقد يستعمل الضّمان للدّين، والكفالة للنّفس‏.‏ وهما مشروعان أيضاً ليتوثّق بهما الالتزام‏.‏ والأصل في ذلك قول اللّه تعالى في قصّة يوسف‏:‏ ‏{‏ولمن جاء به حمل بعيرٍ وأنا به زعيم‏}‏‏.‏

وفي كلّ ذلك تفصيلات واختلافات للفقهاء تنظر في موضعها ‏(‏ر‏:‏ كفالة‏)‏‏.‏

أمّا بالنّسبة للتّصرّفات الّتي يدخلها التّوثيق والّتي لا يدخلها، فقد قال السّيوطيّ‏:‏ الوثائق المتعلّقة بالأعيان ثلاثة‏:‏ الرّهن والكفالة والشّهادة، ثمّ قال‏:‏ من العقود ما تدخله الثّلاثة كالبيع والسّلم والقرض، ومنها ما تدخله الشّهادة دونهما وهو المساقاة - جزم به الماورديّ - ونجوم الكتابة‏.‏ ومنها ما تدخله الشّهادة والكفالة دون الرّهن وهو الجعالة‏.‏

ومنها ما تدخله الكفالة دونهما وهو ضمان الدّرك‏.‏ ثمّ قال‏:‏ ليس لنا عقد يجب فيه الإشهاد من غير تقييدٍ إلاّ النّكاح قطعاً، والرّجعة على قولٍ، وعقد الخلافة على وجهٍ، وممّا قيل بوجوب الإشهاد فيه من غير العقود‏:‏ اللّقطة على وجهٍ، واللّقيط على الأصحّ لخوف إرقاقه‏.‏ وقد زاد الزّركشيّ أروش الجنايات المستقرّة فيما يدخله الثّلاثة‏.‏

وقد اعتبر الزّركشيّ أنّ التّوثيق لا ينحصر في هذه الثّلاثة ‏(‏الشّهادة والرّهن والكفالة‏)‏ وإنّما اعتبر منها‏:‏ الحبس على الحقوق إلى الوفاء، ومنها حبس المبيع حتّى يقبض الثّمن، وكذلك منع المرأة تسليم نفسها حتّى تقبض معجّل المهر‏.‏‏.‏

انتقال الالتزام

54 - يجوز انتقال الالتزام بالدّين من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ أخرى، إذ هو نوع من التّوثيق بمنزلة الكفالة، وهو ما يسمّى بالحوالة، وهي معاملة صحيحة مستثناة من بيع الدّين بالدّين فجازت للحاجة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مطل الغنيّ ظلم‏.‏ وإذا أحيل أحدكم على مليءٍ فليتبع»‏.‏ وللتّفصيل ومعرفة الخلاف ‏(‏ر‏:‏ حوالة‏)‏‏.‏

إثبات الالتزام

55 - إثبات الالتزام إنّما يحتاج إليه عند إنكار الملتزم‏.‏ وفي هذه الحالة يكون على الملتزم له ‏(‏صاحب الحقّ‏)‏ إثبات حقّه، عملاً بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر»‏.‏ وللقاضي - إن لم يظهر صاحب الحقّ بيّنته - أن يسأله‏:‏ ألك بيّنة ‏؟‏ لما روي «أنّه جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة، إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميّ‏:‏ يا رسول اللّه إنّ هذا قد غلبني على أرضٍ لي كانت لأبي، فقال الكنديّ‏:‏ هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حقّ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم للحضرميّ‏:‏ ألك بيّنة ‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فلك يمينه»‏.‏ وللإثبات طرق متعدّدة كالإقرار والشّهادة واليمين والنّكول والقسامة وغير ذلك ‏(‏ر‏:‏ إثبات‏)‏‏.‏

انقضاء الالتزام

56 - الأصل أنّ الالتزام ينقضي بوفاء الملتزم وتنفيذه ما التزم به من تسليم عينٍ أو دينٍ، كتسليم المبيع للمشتري، والثّمن للبائع، والمأجور للمستأجر، والأجرة للمؤجّر والموهوب للمتّهب وبدل القرض للمقرض وهكذا‏.‏

وينقضي الالتزام أيضاً بالقيام بالعمل الملتزم به في إجارةٍ أو استصناعٍ أو مساقاةٍ أو وكالةٍ أو مضاربةٍ، وبانقضاء المدّة في التّصرّف المقيّد بالزّمن كالإجارة المحدّدة‏.‏

57 - وقد ينقضي الالتزام بغير هذا ومن أمثلة ذلك‏:‏

‏(‏1‏)‏ إبراء الدّائن للمدين‏.‏

‏(‏2‏)‏ - الفسخ أو العزل في العقود الجائزة كالوكالة والشّركة والقراض الوديعة، إلاّ إذا اقتضى فسخها ضرراً على الطّرف الآخر‏.‏

يقول السّيوطيّ‏:‏ الشّركة والوكالة والعاريّة الوديعة والقراض كلّها تنفسخ بالعزل من المتعاقدين أو أحدهما‏.‏

وفي المنثور للزّركشيّ‏:‏ العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضرراً على الطّرف الآخر امتنع وصارت لازمةً‏.‏ ولهذا قال النّوويّ‏:‏ للوصيّ عزل نفسه إلاّ أن يتعيّن عليه أو يغلب على ظنّه تلف المال باستيلاء ظالمٍ‏.‏

ويجري مثله في الشّريك والمقارض، وقد قالوا في العامل إذا فسخ القراض‏:‏ عليه التّقاضي والاستيفاء، لأنّ الدّين ملك ناقص، وقد أخذه منه كاملاً، فليردّه كما أخذه، وظاهر كلامهم أنّه لا ينعزل حتّى ينضّ المال‏.‏

‏(‏3‏)‏ الرّجوع في التّبرّعات قبل القبض كالوصيّة والهبة، وبعد القبض في العاريّة والقرض عند غير المالكيّة‏.‏

‏(‏4‏)‏ المقاصّة في الدّيون‏.‏

‏(‏5‏)‏ انعدام الأهليّة في العقود الجائزة كالجنون والموت‏.‏

‏(‏6‏)‏ الفلس أو مرض الموت في التّبرّعات قبل القبض‏.‏

‏(‏7‏)‏ عدم إمكان التّنفيذ، كهلاك المبيع قبل القبض‏.‏

يقول الكاسانيّ‏:‏ هلاك المبيع قبل القبض، إن هلك كلّه قبل القبض بآفةٍ سماويّةٍ انفسخ البيع، لأنّه لو بقي أوجب مطالبة المشتري بالثّمن، وإذا طالبه بالثّمن فهو يطالبه بتسليم المبيع، وأنّه عاجز عن التّسليم فتمتنع المطالبة أصلاً، فلم يكن في بقاء البيع فائدة فينفسخ، وكذلك إذا هلك بفعل المبيع بأن كان حيواناً فقتل نفسه، وكذا إذا هلك بفعل البائع يبطل البيع ويسقط الثّمن عن المشتري عندنا‏.‏

وإن هلك بفعل المشتري لا ينفسخ البيع وعليه الثّمن، لأنّه بالإتلاف صار قابضاً‏.‏‏.‏

التصاق

التّعريف

1 - التصق والتزق بمعنًى واحدٍ، والتصق بالشّيء‏:‏ لزق وعلق به، والالتصاق‏:‏ اتّصال الشّيء بالشّيء بحيث لا يكون بينهما فجوة بتلزّجٍ أو تماسكٍ أو تماسٍّ‏.‏

والفقهاء يستعملونه بالمعنى نفسه‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الالتصاق من الأمور الّتي قد تحدث تلقائيّاً، كالتصاق الدّور، والتصاق أوراق الشّجر بالماء، وكالتصاق عضوٍ زائدٍ بجسمٍ‏.‏ وقد يحدث بقصدٍ كلصق جبيرةٍ على جرحٍ‏.‏

وسواء حدث الالتصاق بقصدٍ أو بغير قصدٍ فإنّه قد يترتّب عليه بعض الأحكام‏.‏

3 - فالتصاق الدّارين مثلاً في سكّةٍ نافذةٍ يعطي أحد الجارين الملاصقين الأولويّة في الشّفعة، إذا أراد الآخر بيع داره، وهذا كما يقول الحنفيّة‏.‏ إذ لا شفعة بالجوار عند غيرهم‏.‏ والتصاق الجبيرة على الجرح يترتّب عليه جواز المسح على الجبيرة في الطّهارة‏.‏

4- على أنّ الالتصاق منه ما هو واجب، كالتصاق الجبهة بالأرض في السّجود‏.‏ ومنه ما هو حرام كالتصاق رجلين أو امرأتين في ثوبٍ واحدٍ بدون حائلٍ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يفضي الرّجل، إلى الرّجل ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوبٍ واحدٍ»‏.‏ ويكون مكروهاً إذا كان بحائلٍ وبدون قصد التّلذّذ‏.‏

مواطن البحث

5 - يأتي الالتصاق في مواطن متعدّدةٍ، ومن ذلك‏:‏ التصاق الثّوب بالجسم في الصّلاة، وينظر في ‏(‏ستر العورة‏)‏‏.‏

وفي التصاق الدّارين، وإساءة أحد صاحب الدّارين إلى الآخر وينظر في ‏(‏جناية - إتلاف ارتفاق - شفعة‏)‏ وفي ما انحسر عنه البحر، وينظر في ‏(‏إحياء الموات‏)‏‏.‏

وفي التصاق عضوين في الجسم وينظر في ‏(‏طهارة‏)‏‏.‏